رياضة

تبادل القمصان: التقليد الكروي الذي قد يجعلك مليونيراً

متى بدأ تقليد تبادل القمصان بين لاعبي كرة القدم وفي الرياضات الجماعية، وما دلالاته، وكيف مهد الطريق لتجارة كبرى تقدر بمئات المليارات من الدولارات؟

future تبادل القمصان بين لاعب المنتخب الإنجليزي ستيفن جيرارد ولاعب المنتخب الأمريكي كلينت ديمبسي

بعد نهاية إحدى مباريات المنتخب الإنجليزي تبادل كيران تريبير كلماتٍ خاطفة مع رجلين في ممر ملعب ويمبلي، قبل أن يشرع في خلع سرواله القصير وقميصه بلا مقاومة. لم يكن الرجلان قاطعي طرق وممرات، وإنما لاعبان من منتخب أندورا خسر فريقهم للتو، لكنهم أرادوا الاحتفاظ بقميص تريبير وسرواله كتذكار أو ما شابه.

تبادل القمصان تقليد منتشر في الرياضات الجماعية، وفي كرة القدم بشكل خاص، ولا يقتصر على اللاعبين فقط، بل إن مساعد مدرب ويست بروميتش ألبيون طلب من مارسيلو بيلسا عقب مباراة فريقه أمام ليدز يونايتد الذي كان يدربه بيلسا وقتها أن يهبه سترته.

فمتى بدأ ذلك التقليد؟ وما دلالاته؟ وكيف مهد الطريق لتجارة كبرى يقدر لها النمو لمئات المليارات من الدولارات؟

فرنسا والإرهاص الأول

عام 1931 فتح التاريخ الكروي عينه على عملية مبادلة القمصان بين اللاعبين للمرة الأولى حين جمعت مباراة ودية منتخبي فرنسا وإنجلترا. وكانت إنجلترا قد فازت بالمواجهات الستة الأولى ضد فرنسا. حتى شهدت تلك المباراة في الـ 14 من مايو، الفوز الأول للفرنسيين على الإنجليز بنتيجة 5-2. وعقب صافرة النهاية، حرص لاعبو المنتخب الفرنسي على تبادل القمصان مع اللاعبين الإنجليز؛ كتخليد لذكرى الانتصار الأول.

ووفقاً للموقع الرسمي للفيفا، فإن كأس العالم 1954 كان شاهداً على المرة الأولى التي تتم فيها مبادلة القمصان في أكبر حدث رياضي عالمي. وهو ما صار بعد ذلك تقليداً كروياً شائعاً ينظر له وكأنه إضافة حتمية مع صافرة النهاية، خصوصاً في المواعيد الكبرى والمسارح العالمية.

لا يقف الأمر عند طلب أحد اللاعبين قميصَ لاعب آخر، فيوافق بترحاب أو يعتذر بلباقة أو يرفض بصفاقة وينتهي الأمر. لكن تبادل القمصان من منظور اللاعبين أنفسهم تجربة شخصية؛ تحمل في طياتها قصةً تنم عن إعجاب أو إحراج أو ألم.

يحتفظ بعض اللاعبين بتلك القمصان كما هي بالعرق والتراب، البعض الآخر يفضل تنظيفها وتغليفها وعرضها بشكل منمق في مَعرض مخصص داخل منزله. بعض تلك القمصان ينتهي به الحال في غياهب غرف تغيير الملابس أو في أيدي لصوص أذكياء يعرفون قيمتها جيداً.

ولكن، ما المعنى وراء تبادل القمصان؟ هل ثمة قيمة أو مغزى وراء مبادلة قطعة قماش صفراء تحمل الرقم 10، بقطعة قماش حمراء تحمل الرقم 9، وغالباً من صنع نفس الشركة؟

في الحقيقية، نعم.

ليس قميصاً فحسب!

يمكن اختزال ذلك التقليد بصورته الأقدم، حين بادل الفريق الفرنسي الفائز قمصانه مع الفريق الإنجليزي الخاسر كذكرى للانتصار، في صورة قاتلٍ متسلسلٍ خبيث، يروق له أن يحمل من أثر ضحاياه تذكاراً، بعدما ينكل بهم ويهزمهم شر هزيمة. ولكن ذلك التصور يندثر برؤية ترحاب الخاسر بالمبادلة، دون أن يعدها إهانة أو نزعاً للشرف.

بل على النقيض، يرى كلينت ماتيس، وهو لاعب كرة قدم أمريكي شارك في كأس العالم 2002، أن تلك المبادلة علامة على الاحترام والتقدير. فما كان قبل صافرة النهاية من جهدٍ وعرقٍ وحمية واندفاعٍ؛ صار بعدها صداقةً ووداً، وعلامته أن أحمل قميصك وتحمل قميصي، وكأن ما جرى قبل قليلٍ لا تأثير له على علاقتنا كلاعبين أو أصدقاء.

لكن «إلفي رامسي» مدرب منتخب الأسود الثلاثة في كأس العالم 1966، لم ينظر للأمر وقتها على هذا النحو، حتى وهو منتصر. فعندما لمح رامسي أحد لاعبيه يبادل قميصه مع أحد لاعبي المنتخب الأرجنتيني الذين سبق أن وصفهم بالحيوانات؛ نهره وألقى بالقميص أرضاً.

يفسر إيليس كاشمور، أستاذ علم الاجتماع والإعلام والرياضة في جامعة ستافوردشاير الإنجليزية، تصرف رامسي في تلك الواقعة على أنه تصرف رمزي. فالمبادلة لها وظيفة ثقافية؛ كتعزيز التكافل الاجتماعي والتأكيد على الصداقات والعلاقات الاقتصادية، وهو ما لم يتحقق مطلقاً بين البلدين حتى بعد تلك الواقعة بعقودٍ، ويمكن قياسه على العلاقات المتوترة بين الأمم المتناحرة سياسياً أو اقتصادياً أو ثقافياً، كالمكسيك والولايات المتحدة على سبيل المثال.

ذلك التناحر الذي تقلل من وطأته لمحة بسيطة كتبادل قمصان بين لاعبين، يشبهه كاشمور بنظام تبادل الهدايا الاحتفالية الذي سبق مرحلة التجارة الرسمية في جزر تروبرياند في جنوب غرب المحيط الهادئ. والذي عرف باسم «كولا-Kula» وهو ما أبقى على كثير من العلاقات المتوترة قائمةً وموصولة، ولولاها لصارت إلى غياهب القطيعة والشقاق.

ولا نريد أن نحمل تقليداً متوارثاً ما لا يحتمل من أعباء ثقافية ودلالات نفسية وخلافه، فغالباً ما يكون الأمر ببساطة الوقوف أمام نجمك المفضل أو أمام أفضل لاعبٍ في الجيل بأسره. فرصة لن تتكرر ولا تملك إزاءها إلا المبادرة بطلب قميصه، الأمر الذي يحفظ كرامتك، ولا يجعلك تبدو كالأبله أمام خصمٍ كنت تطارده في الملعب قبل قليل.

وللأمر غرضٌ مادي أيضاً

عندما ارتقى مارادونا وأحرز بيد الرب هدفه الأشهر في مرمى إنجلترا في ربع نهائي كأس العالم 1986؛ شعر الإنجليز أنهم سُلبوا بالمكر والخديعة حقهم في منافسة شريفة أمام خصم بينهم وبينه تاريخٌ من العداوة داخل الملعب وخارجه، أشهرها حرب الفوكلاند التي حضرت كخلفية لتلك المواجهة.

لكن لاعب الوسط الإنجليزي آنذاك ستيف هودج لم يأبه بالفوكلاند ولا بيد الرب ولا بشيء سوى قميص المشاغب الأرجنتيني الذي سجل به الهدف المثير للجدل. وكأن هودج يستشرف المستقبل القريب الذي سيمنح فيه هذا الهدف بعداً سياسياً ووطنياً بالنسبة للشعب الأرجنتيني، والمستقبل البعيد الذي سيستعاد فيه هذا الهدف كأيقونة نوادر الكرة عبر العالم، واحتفظ بالقميص لوقتٍ مناسب.

جاء هذا الوقت في أبريل عام 2022، حين قرر هودج أن يعرض القميص في مزادٍ علني، قُدرت فيه قيمة القميص من أربعة إلى ستة ملايين جنيه إسترليني؛ ولكن مزايداً مجهولاً كسر الرقم القياسي لأغلى قميص تذكاري حقيقي، وحصل عليه بقيمة 7.14 مليون جنيه إسترليني.

بعدها بشهور، كُسر هذا الرقم مرةً أخرى. حين قدم مزايدٌ مجهول 10.1 مليون دولار مقابل أحد قمصان أسطورة كرة السلة المعتزل مايكل جوردون الذي ارتداه في موسم الرقصة الأخيرة الشهير مع فريق شيكاغو بولز عام 1998.

وكم في الزوايا من خبايا!

فمثل تلك الأرقام الفلكية التي قد لا يحصل عليها لاعبٌ مغمورٌ في مسيرة كاملة؛ قد يحصِّلها إن ساقت إليه الأقدار قميصاً واحداً لنجمٍ خيالي مثل بيليه. الذي باعت قميصَه أسرة اللاعب الإيطالي الذي بادله معه، في نهائي كأس العالم 1970 بمبلغ 310 آلاف دولار عام 2002.

والحقيقة أن هذا صار توجهاً فعلياً، تقوم على أساسه تجارة ضخمة تعرف بتجارة «التذكارات الرياضية - Sports Memorabilia» قُدرت قيمتها عالمياً بـ 26.1 بليون دولار عام 2021، وفقاً لمجموعة الاستشارات Market Decipher التي توقعت نمواً ضخماً لهذا السوق يصل إلى 227.2 بليون دولار عام 2032. ودلالة هذا النمو الضخم، ملاحظة الفارق الشاسع بين قيمة بيع التذكار للمرة الأولى وقيمة إعادة بيعه بعدها بسنوات، وحذاء الإنفلونزا خير دليل.

عقب نهاية المباراة الخامسة من نهائيات NBA عام 1997 التي اشتهرت تاريخياً بمباراة الإنفلونزا، وفيها استطاع مايكل جوردون وحده أن يحرز 38 نقطة رغم التعرق وجريان الأنف والتعب البادي على ملامحه منذ بدء المباراة، والذي لاحظه الجميع؛ دفع جوردون بحذائه وجواربه لطفلٍ من حاملي الكرات.

بعد المباراة بـ 16 سنة تحديداً عام 2013، عرض حامل الكرات ذلك التذكار للبيع في مزادٍ علني، وحصل على 104.765 دولاراً في المقابل. المبلغ الذي لو وضع في البورصة المالية الأمريكية لأصبح بعد عشر سنوات 351 ألف دولار. لكن الحذاء حين أعيد عرضه للمزاد بعد عشر سنوات بلغت قيمته 1.38 مليون دولار.

المفارقة الغريبة هنا، والتي ربما يجهلها البعض، أن اللاعبين يدفعون لأنديتهم ثمن القمصان التي يهدونها للخصوم، وأحياناً عندما يمر النادي بأزمة مالية فإنه يحث لاعبيه على الحد من ذلك التقليد توفيراً للنفقات وحرصاً على الموارد.

نرجو في المرة القادمة التي ترى فيها لاعبين يتبادلون قمصانهم في مباراة كبرى، أو حين يهدي لاعبٌ قميصَ مباراةٍ نهائية كسبها لأحد المشجعين، أن تعصف بذهنك كل تلك الأفكار وتصوَّر نفسك مكان هذا المحظوظ، وكيف أن قميصاً واحداً كهذا قد يجعلك مليونيراً بعد عشر سنين!

# كرة قدم # رياضة

التحرش وكرة القدم النسائية: الخطر الأكبر الذي يهدد اللعبة
كيف جمعت كرة القدم بين الخبث والجمال؟
كيف أتت الشركة الألمانية بنظام الدوري الجديد؟

رياضة